تفسير سورة البقرة آية 167 - 168 - 169 - 170 - 171 - 172 - 173 - 174

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:

{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } أي الأتْبَاعُ

{ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } رَجْعَةً إلى الدُّنْيا

{ فَنَتَبَرَّأَ } نَصبٌ على جَوابِ التَّمَنّي لأنّ لَو في مَعنَى التَّمَنّي والمعنى لَيتَ لَنَا كَرّةً فنَتَبَرَّأ

{ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } الآنَ

{ كَذَلِكَ } مثلَ ذلكَ الإرَاءِ الفَظِيعِ

{ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ } أي عِبَادَتَهمُ الأوثَانَ

{ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } نَدَامَاتٍ.

ومَعنَاهُ أنّ أَعْمَالَهم تَنقَلِبُ عَلَيهِم حَسَرَاتٍ فَلا يَرَونَ إلّا حَسَرَاتٍ مَكَانَ أَعمَالِهم.

{ وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة : 167] بَل هُم فِيهَا دائِمُونَ.

ونَزَلَ فِيْمَن حَرَّمُوا على أَنفُسِهِمُ البَحَائِرَ ونَحوَها. (جَمْعُ بَحِيرَة وهيَ النّاقَةُ بِنتُ السّائِبَة لا يُركَبُ ظَهرُها ولا يُجَزُّ وبَرُها ولا يُشْرَبُ لبَنُها، تُشَقُّ أذُنُها ويُخَلَّى سَبِيلُهَا)

{ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا } أَمرُ إبَاحَةٍ

{ مِمَّا فِى الأرْضِ } مِنْ لِلتَّبْعِيض لأنّ كُلَّ مَا في الأرضِ لَيسَ بِمأكُولٍ

{ حَـلَالًا } مفعُولُ "كُلُوا" أو حَالٌ مِما في الأرض

{ طَيِّبًا } طَاهِرًا مِن كُلِّ شُبْهَةٍ

{ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } طُرُقَهُ التي يَدْعُوكُم إلَيها.

والخُطْوَةُ في الأَصْلِ مَا بَينَ قَدَمَيِ الخَاطِي. يُقَالُ اتَّبَعَ خُطُواتِه إذَا اقْتَدَى بهِ واسْتَنَّ بسُنَّتِه.

{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة : 168] ظَاهِرُ العَدَاوَةِ لا خَفَاءَ بهِ.

ولا يُنَاقِضُ هَذِه الآيةَ قَولُه تَعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ } أي الشَّيطَانُ لأنَّهُ عَدُوٌّ لِلنّاسِ حَقِيقَةً ووَلِيُّهُم ظَاهِرًا فَإنَّهُ يُرِيْهِم في الظَّاهِر الْمُوالَاةَ ويُزَيّنُ لَهم أَعْمَالَهم ويُرِيدُ بذَلكَ هَلاكَهُم في البَاطِن.

{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم } بَيَانٌ لِوُجُوبِ الانتِهَاءِ عَن اتّبَاعِه وظُهُورِ عَدَاوَتِه، أي لا يَأمُركُم بخَيرٍ قَطُّ إنّما يَأمُركُم

{ بِالسُّوءِ } بالقَبِيحِ

{ وَالْفَحْشَآءِ } ومَا يتَجَاوَزُ الحَدَّ في القُبْحِ مِنَ العَظَائِم.

وقِيلَ : السُّوءُ مَا لا حَدَّ فِيهِ والفَحْشَاءُ مَا فِيهِ حَدٌّ

{ وَأَنْ تَقُولُوا } أي وبِأَنْ تَقُولُوا

{ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 169]

هوَ قَولُكُم هَذَا حَلَالٌ وهَذا حَرَامٌ بغَيرِ عِلْم ، ويَدخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يُضَافُ إلى اللهِ تَعَالى مِما لا يَجُوزُ علَيهِ.

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ } الضَّمِيرُ للنّاس.

وعُدِلَ بالخِطَابِ عَنهُم على طَرِيقِ الالْتِفَافِ.

قِيلَ : هُمُ المشرِكُونَ.

وقِيلَ : طَائِفَةٌ مِنَ اليَهُودِ لَمّا دَعَاهُم رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم إلى الإيمانِ واتّبَاعِ القُرآنِ ،

{ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا } وَجَدْنَا

{ عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ } فَإنَّهم كَانُوا خَيرًا مِنّا وأَعْلَمَ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيهِمْ بقَولِه

{ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ } الواوُ لِلحَالِ والهَمزَةُ بمعنى الرَّدّ والتَّعَجُّب، مَعنَاهُ أَيَتَّبِعُونَهم ولَو كانَ آباؤهُم

{ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا } مِنَ الدّين

{ وَلا يَهْتَدُونَ } [البقرة : 170] للصَّوابِ.

ثم ضَرَبَ لَهم مَثَلًا فقَالَ

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا } الْمُضَافُ مَحذُوفٌ أيْ ومَثَلُ دَاعِي الذينَ كَفَرُوا

{ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ } يَصِيحُ، والمرَادُ

{ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَآءً وَنِدَآءً } البَهَائِم.

والمعنَى ومَثَلُ دَاعِيْهِم إلى الإيمانِ في أنّهم لا يَسمَعُونَ مِنَ الدُّعَاءِ إلا جَرَسَ النَّغْمَةِ ودَوِيَّ الصَّوتِ مِنْ غَيرِ إلْقَاءِ أذْهَانٍ ولا اسْتِبصَارٍ كمَثَلِ النّاعِقِ بالبَهَائِم التي لا تَسمَعُ إلا دُعَاءَ النّاعِقِ ونِداءَه الذي هوَ تَصْوِيتٌ بِها وزَجْرٌ لَها ولا تَفْقَهُ شَيئًا آخَرَ كَمَا يَفهَمُ العُقَلَاءُ.

والنَّعِيقُ : التَّصْوِيتُ ، يُقَالُ نَعَقَ المؤذِّنُ ونَعَقَ الرّاعِي بالضَّأْن، والنّدَاءُ مَا يُسمَعُ ، والدُّعَاءُ قَدْ يُسْمَعُ وقَدْ لا يُسْمَعُ.

{ صُمٌ } أيْ هُمْ صُمٌّ

{ بُكْمٌ عُمْىٌ } عن الحَقّ

{ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [البقرة : 171] الْمَوعِظَةَ ، ثُمّ بَيّنَ أنّ مَا حَرّمَهُ المشرِكُونَ حَلَالٌ فقَالَ :

{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ } مِنْ مُسْتَلَذّاتِهِ أو مِنْ حَلَالَاتِهِ

{ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ } الذي رَزَقَكُمُوهَا

{ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [البقرة : 172] إنْ صَحَّ أَنَّكُم تَخْتَصُّونَهُ بالعِبَادَةِ وتُقِرُّونَ أنّهُ مُعطِي النِّعَم.

ثمّ بَيّنَ الْمُحَرَّمَ فقَالَ

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } وهيَ كُلُّ مَا فَارَقَهُ الرُّوحُ مِن غَيرِ ذَكَاةٍ مِما يُذبَحُ ،وإنّما لإثبَاتِ المذكُورِ ونَفيِ مَا عَدَاهُ ، أيْ مَا حَرَّمَ علَيكُم إلا الميتَةَ

{ وَالدَّمَ } يَعني السّائِلَ لقَولِه في مَوضِعٍ آخَر : { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا }

وقَدْ حَلَّتِ الْمَيتَتَانِ والدَّمَانِ بالحَدِيث "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ ودَمَانِ السَّمَكُ والجَرادُ والكَبِدُ والطِّحَالُ" رواه البيهقي وابن ماجه.

{ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ } يعني الخِنزِيرَ بجَمِيعِ أجْزَائِه ، وخُصَّ اللَّحْمُ لأَنَّهُ المقصُودُ بالأَكْل.

{ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } أيْ ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ فَذُكِرَ علَيهِ غَيرُ اسمِ الله ، وأَصْلُ الإهْلَالِ رَفعُ الصَّوتِ أيْ رُفِعَ بهِ الصّوتُ لِلصَّنَم ، وذلكَ قَولُ أَهلِ الجَاهلِيّةِ باسْمِ اللّاتِ والعُزَّى.

{ فَمَنِ اضْطُرَّ } أي أُلجِىءَ

{ غَيْرَ } أيْ أَكَلَ غَيرَ

{ بَاغٍ } لِلَذَّةٍ وشَهوَةٍ

{ وَلا عَادٍ } مُتَعَدٍّ مِقدَارَ الحَاجَةِ.

وقَولُ مَن قَالَ غَيرَ بَاغٍ على الإمامِ ولا عَادٍ في سَفَرٍ حَرامٍ ضَعِيفٌ لأنَّ سَفَرَ الطَّاعَةِ لا يُبِيحُ بِلا ضَرُورَةٍ ، والحَبْسُ بالحَضَرِ يُبِيحُ بلَا سَفَرٍ ، ولأنَّ بَغْيَهُ لا يَخرُجُ عن الإيمانِ فَلا يَستَحِقُّ الحِرمَانَ.

والْمُضطَرُّ يُبَاحُ لَهُ قَدْرُ مَا يَقَعُ بهِ القِوَامُ وتَبْقَى مَعَهُ الحَيَاةُ دُونَ مَا فِيهِ حُصُولُ الشِّبَع ، لأنّ الإبَاحَةَ لِلاضْطِرَارِ فتُقَدَّرُ بقَدْرِ مَا تَندَفِعُ الضَّرُورَةُ

{ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } في الأَكْلِ

{ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } لِلذُّنُوبِ الكَبَائِر فأَنَّى يُؤاخِذُ بتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ عِندَ الاضْطِرَارِ

{ رَّحِيمٌ } [البقرة : 173] حَيثُ رَخَّصَ.

ونَزَلَ في رُؤسَاءِ اليَهُودِ وتَغْيِيْرِهِم نَعْتَ النَّبيّ علَيهِ السَّلامُ وأَخْذِهِم على ذلكَ الرِّشَا

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَـابِ } في صِفَةِ محَمَّدٍ علَيهِ السَّلامُ

{ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } أي عِوَضًا ،أو ذَا ثَمنٍ

{ أولئكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ } مِلْءَ بُطُونِهم تَقُولُ : أَكَلَ فُلَانٌ في بَطْنِه وأَكَلَ في بَعضِ بَطْنِهِ

{ إِلا النَّارَ } لأنَّهُ إذَا أَكَلَ مَا يَتَلَبَّسُ بالنّارِ لِكَونِها عُقُوبَةً علَيهِ فكَأَنَّهُ أَكَلَ النّارَ.

ومِنهُ قَولُهم " أَكَلَ فُلَانٌ الدَّمَ " إذَا أَكَلَ الدِّيَةَ التي هيَ بَدَلٌ مِنهُ قال :

يَأكُلْنَ كُلَّ لَيلَةٍ إكَافًا أي ثَمنَ إكَافٍ فسَمَّاهُ إكَافًا لِتَلبسه بهِ بكَونِه ثَمنًا لهُ.

{ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } كَلامًا يَسُرُّهُم ولَكِن بنَحْوِ قَولِه : { اخْسَـؤوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ }

{ وَلا يُزَكِّيهِمْ } ولا يُطَهِّرُهُم مِن دَنَسِ ذُنُوبِهم، أو لا يُثني علَيهِم

{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] مُؤلمٌ

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة البقرة تفسير النسفي