تفسير سورة البقرة آية 179 - 180 - 181 - 182 - 183 - 184

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:

{ وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } كَلامٌ فَصِيحُ لِمَا فِيهِ مِنَ الغَرَابَةِ ، إذِ القِصَاصُ قَتلٌ وتَفوِيتٌ لِلحَياةِ وقَدْ جُعِلَ ظَرفًا لِلحَياةِ.

وفي تَعرِيفِ القِصَاصِ وتَنكِيرِ الحَياةِ بَلاغَةٌ بَيّنَةٌ لأنّ المعنى ولَكُم في هذا الجِنْسِ مِنَ الحُكْم الذي هوَ القِصَاصُ حَيَاةٌ عَظِيمَةٌ لِمَنعِه عمّا كَانُوا علَيهِ مِنْ قَتْلِ الجَماعَةِ بوَاحِدٍ مَتى اقْتَدَرُوا فَكَانَ القِصَاصُ حَيَاةً وأيَّ حَياةٍ.

أو نَوعٌ مِنَ الحَياةِ وهيَ الحيَاةُ الحَاصِلَةُ بالارْتِدَاعِ عَنِ القَتْلِ لِوُقُوعِ العِلْمِ بالقِصَاصِ مِنَ القَاتِل، لأنّه إذَا هَمَّ بالقَتْلِ فتَذكَّرَ الاقْتِصَاصَ ارْتَدَع فَسَلِمَ صَاحِبُه مِنَ القَتْلِ وهوَ مِنَ القَوَدِ فَكَانَ شَرْعُ القِصَاصِ سَبَبَ حَيَاةِ نَفْسَينِ.

{ يَـا أُوْلِي الألْبَـابِ } يا ذَوِي العُقُولِ

{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 179]  القَتْلَ حَذَرًا مِنَ القِصَاصِ.

{ كُتِبَ } فُرِضَ

{ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي إذَا دَنَا مِنهُ فظَهَرَتْ أَمَارَتُه

{ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا } مَالًا كَثِيرًا لِمَا رُوِيَ عَن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ إنّ مَولًى لهُ أرادَ أنْ يُوصِيَ ولهُ سَبعُمِائةٍ فمَنعَه وقال : قال الله تعالى : إنْ تَرَكَ خَيرًا. والخَيرُ هوَ الْمَالُ الكَثِيرُ ولَيسَ لكَ مَالٌ. وفَاعِلُ كُتِبَ

{ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } وكَانَتِ الوَصِيّةُ لِلوَارِثِ في بَدْءِ الإسلام فنُسِخَت بآيةِ الْمَوارِيث

وقِيلَ: هيَ غَيرُ مَنسُوخَةٍ لأنّها نزَلَتْ في حَقّ مَن لَيسَ بِوَارِثٍ بسَبَبِ الكُفْر لأنّهم كانُوا حَدِيثِي عَهدٍ بالإسلام ، يُسْلِمُ الرّجُل ولا يُسلِمُ أبَوَاه وقَرائِبُه ، والإسلامُ قَطَعَ الإرْثَ فشُرِعَتِ الوَصِيَّةُ فِيمَا بَينَهُم قَضَاءً لِحَقِّ القَرَابَةِ نَدْبًا وعلَى هَذا لا يُرَادُ بِكَتَبَ فَرَضَ

{ بِالْمَعْرُوفِ } بالعَدْلِ وهوَ أنْ لا يُوصِيَ لِلغَنيّ ويَدَعَ الفَقِيرَ ولا يتَجاَوزَ الثُّلُثَ

{ حَقًّا } أيْ حَقَّ ذلكَ حَقًّا

{ عَلَى الْمُتَّقِينَ } [البقرة : 180] على الذينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ

{ فَمَن بَدَّلَهُ } فَمَنْ غَيَّرَ الإيْصَاءَ عَن وَجْهِه إنْ كانَ مُوافِقًا للشَّرْع مِنَ الأوصِيَاءِ والشُّهُودِ

{ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} أي الإيصَاءَ

{ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } فمَا إثمُ التّبدِيلِ إلّا على مُبَدّلِيْهِ دُونَ غَيرِهم مِنَ الموصِي والْمُوصَى لهُ لأنّهُما بَرِيئَانِ مِنَ الحَيْفِ

{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } لقَولِ الْمُوصِي

{ عَلِيمٌ } [البقرة : 181]  بجَوْرِ الْمُبَدِّل

{ فَمَنْ خَافَ } عَلِمَ، وهَذَا شائع في كَلامِهِم، يَقُولُونَ أَخَافُ أنْ تُرسِلَ السَّماءُ ويُرِيدُونَ الظَّنَّ الغَالِبَ الجَارِيَ مَجْرَى العِلْم

{ مِن مُّوصٍ جَنَفًا } مَيْلًا عن الحَقِّ بالخَطَإ في الوَصِيَّةِ

{ أَوْ إِثْمًا } تَعَمُّدًا لِلحَيْفِ

{ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } بَينَ الْمُوصَى لَهم وهُمُ الوَالِدَانِ والأقرَبُونَ بإجرائِهم على طَرِيقِ الشَّرْعِ

{ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } حِينَئِذٍ لأنّ تَبدِيلَه تَبدِيلُ بَاطِلٍ إلى حَقٍّ، ذَكَرَ مَنْ يُبَدِّلُ بالبَاطِل ، ثم مَن يُبَدِّلُ بالحَقّ لِيُعلَمَ أنّ كُلَّ تَبدِيلٍ لا يؤثّمُ.

{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 182].

{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ } أي فُرِضَ

{ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ }  هوَ مَصدَرُ صَامَ والمرادُ صِيَامُ شَهرِ رمَضانَ

{ كَمَا كُتِبَ } أي كِتَابَةً مِثلَ مَا كُتِبَ،

{ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } على الأنبِيَاءِ والأُمَمِ مِن لَدُنْ آدَمَ علَيهِ السّلامُ إلى عَهدِكُم فهوَ عِبَادَةٌ قَدِيمَةٌ ، والتّشبِيهُ باعْتِبَارِ أنَّ كُلَّ أحَدٍ لهُ صَومُ أيّامٍ، أيْ أَنتُم مُتَعَبَّدُونَ بالصّيَام في أيّامٍ كَمَا تُعُبِّدَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم

{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 183]  المعَاصِي بالصِّيَامِ لأنّ الصّيَامَ أَظْلَفُ لِنَفْسِه وأَردَعُ لَها مِن مُوَاقعَةِ السُّوء ، (قال في لسان العرب: ظَلَف نَفسَه عن الشَّيءِ يَظْلِفُها ظَلْفًا أَي مَنَعَها مِنْ أَنْ تَفْعَلَهُ أَو تَأْتِيَه. وظَلِفَت نَفسِي عن كَذا بالكسر تَظْلَف ظَلَفًا أَي كَفَّتْ، وفي حديث علي كرم اللّه وجهه: ظلَفَ الزُّهْدُ شَهَواتِه أَي كفَّهَا ومَنَعَهَا) أو لَعلَّكُم تَنتَظِمُونَ في زُمرَةِ المتَّقِينَ إذِ الصَّومُ شِعَارُهُم.

{ أَيَّامًا } أيْ كُتِبَ علَيكُم أنْ تَصُومُوا أيّامًا

{ مَّعْدُودَاتٍ } مُوَقّتَاتٍ بعَدَدٍ مَعلُومٍ أيْ قَلائِلَ، وأَصْلُهُ أنّ المالَ القَلِيلَ يُقَدَّرُ بالعدَدِ لا الكَثِيرَ

{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } يَخَافُ مِنَ الصَّومِ زِيَادَةَ الْمَرَضِ

{ أَوْ عَلَى سَفَرٍ } أو رَاكِبَ سَفَرٍ

{ فَعِدَّةٌ } فعَلَيهِ عِدَّةٌ، أي فأَفْطَرَ فعَلَيْهِ صِيَامُ عدَدِ أيّامِ فِطْرِه ، والعِدَّةُ بمعنَى الْمَعدُودِ، أي أُمِرَ أنْ يَصُومَ أيّامًا مَعدُودَةً مَكَانَها

{ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } سِوَى أيّامِ مَرَضِه وسَفَرِه.

{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } وعَلَى الْمُطِيقِينَ لِلصِّيَامِ الذينَ لا عُذْرَ لَهم إنْ أَفْطَرُوا

{ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } نِصفُ صَاعٍ مِن بُرّ أو صَاعٌ مِن غَيرِه. وكانَ ذَلكَ في بَدْءِ الإسلَامِ فُرِضَ علَيهِمُ الصَّومُ ولم يتَعَوَّدُوهُ فَاشْتَدَّ علَيهِم فَرَخَّصَ لَهم في الإفطَارِ والفِدْيَة ، ثم نُسِخَ التَّخْيِيرُ بقَولِه : فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْهُ. ولهذَا كُرِّرَ قَولُه : فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضًا أو علَى سَفَرٍ. لأنّهُ لَمّا كانَ مَذكُورًا معَ الْمَنسُوخِ ذُكِرَ معَ النّاسِخِ لِيَدُلَّ على بقَاءِ هَذا الحُكْم. وقِيلَ : مَعنَاهُ لا يُطِيقُونَهُ فأُضْمِرَ " لا " لقِراءَةِ حَفْصَةَ كذَلكَ، وعلَى هَذا لا يَكُونُ مَنسُوخًا.

{ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } فزَادَ على مِقدَارِ الفِدْيَةِ

{ فهوَ خَيرٌ لَهُ } فَالتَّطَوُّعُ أو الخَيرُ خَيرٌ لهُ،

{ وَأَن تَصُومُوا } أيُّهَا الْمُطِيقُونَ

{ خَيْرٌ لَّكُمْ } مِنَ الفِديَةِ وتَطَوُّعِ الخَير وهَذا في الابتِدَاء. وقِيلَ : وأنْ تَصُومُوا في السَّفَرِ والمرَضِ خَيرٌ لَكُم لأنّهُ أشَقُّ علَيكُم

{ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 184]

 

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة البقرة تفسير النسفي