تفسير سورة البقرة آية 175 - 176 - 177 - 178

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:

{ أولئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ } بكِتْمَانِ نَعْتِ محَمَّدٍ علَيهِ السَّلامُ

{ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } [البقرة : 175] فأَيُّ شَيءٍ أَصْبَرَهُم على عَمَلٍ يُؤدّي إلى النّار ؟ وهَذا استِفهَامٌ مَعنَاهُ التَّوبِيخُ.

 { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ } أي ذلكَ العَذابُ بسَبَبِ أنّ اللهَ نزّلَ مَا نَزّلَ مِنَ الكُتُبِ بالحَقّ.

{ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا } أي أَهلُ الكِتَابِ

{ فِى الْكِتَـابِ } هو للجِنْسِ، أي في كُتُبِ اللهِ فقَالُوا في بَعضِها حَقٌّ وفي بَعضِها بَاطِلٌ

{ لَفِي شِقَاقٍ } خِلافٍ

{ بَعِيدٍ } [البقرة : 176] عن الحَقِّ، أو كُفرُهُم ذَلكَ بسَبَبِ أنّ اللهَ نَزّلَ القُرآنَ بالحَقِّ كمَا يَعلَمُونَ ، وإنّ الذينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِيْ شِقَاقٍ بَعِيدٍ عن الهُدَى.

{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا } أيْ لَيسَ البِرَّ تَوْلِيَتُكُم { وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } والخِطَابُ لأَهلِ الكِتَابِ، لأنَّ قِبْلَةَ النّصَارَى مَشرِقُ بَيتِ الْمَقدِسِ ، وقِبلَةَ اليَهُودِ مَغرِبُه ، وكُلُّ واحِدٍ مِنَ الفَرِيقَينِ يَزعُمُ أنّ البِرَّ التَّوَجُّهُ إلى قِبْلَتِه ، فَرَدَّ علَيهِم بأنَّ البِرَّ لَيسَ فِيمَا أَنتُم علَيهِ فَإنّهُ مَنسُوخٌ { وَلَـكِنَّ الْبِرَّ } بِرُّ { مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ } أو ذَا البِرِّ مَن آمَنَ، والقَولانِ على حَذْفِ الْمُضَافِ والأوّلُ أَجْوَدُ.

والبِرُّ اسمٌ للخَيرِ ولِكُلِّ فِعلٍ مَرضِيٍّ.

وقِيلَ : كَثُرَ خَوضُ المسلِمِينَ وأَهلُ الكِتَابِ في أَمْرِ القِبْلَةِ فقِيلَ : لَيسَ البِرُّ العَظِيمُ الذي يَجِبُ أنْ تَذهَلُوا بشَأنِه عن سَائِرِ صُنُوفِ البِرّ أَمرَ القِبلَةِ ، ولَكِنَّ البِرَّ الذي يجِبُ الاهتِمَامُ بهِ بِرُّ مَن آمَنَ وقَامَ بهذه الأعمَالِ.

{ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }  أي يَومِ البَعْثِ

{ وَالْمَلَائكَةِ وَالْكِتَـابِ } أي جِنْسِ كُتُبِ اللهِ، أو القُرآنِ

{ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أيْ على حُبِّ اللهِ، أو حُبِّ المالِ، أو حُبِّ الإيْتَاءِ، يُرِيدُ أنْ يُعطِيَهُ وهوَ طَيّبُ النَّفْسِ بإعْطَائِهِ

{ ذَوِى الْقُرْبَى } أي القَرَابَةِ وقَدَّمَهُم لأنَّهم أَحَقُّ. قالَ علَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : "صَدَقَتُكَ على الْمِسكِينِ صَدَقَةٌ وعَلى ذَوِي رَحِمِكَ صَدَقَةٌ وصِلَةٌ" رواه النسائي .

{ وَالْيَتَـامَى } والْمُرَادُ الفُقَرَاءُ مِنْ ذَوِي القُربَى واليَتَامَى ، وإنّما أَطْلَقَ لِعَدَمِ الإلْبَاسِ.

{ وَالْمَسَـاكِينَ } المسكِينُ الدَّائِمُ السُّكُونِ إلى النَّاسِ لأنّهُ لا شَيءَ لَهُ

{ وَابْنَ السَّبِيلِ } المسَافِرَ الْمُنقَطِعَ وهوَ جِنسٌ وإنْ كانَ مُفرَدًا لَفظًا ، وجُعِلَ ابنًا للسَّبِيلِ لِمُلَازَمَتِه لهُ، أو الضَّيْفُ

{ وَالسَّآئِلِينَ } الْمُستَطعِمِينَ

{ وَفِي الرِّقَابِ } وفي مُعَاوَنَةِ الْمُكَاتَبِينَ حَتى يَفُكُّوا رِقَابَهم، أو في فَكِّ الْأُسَارَى.

{ وَأَقَامَ الصَّلَواةَ } الْمَكْتُوبَةَ

{ وَءَاتَى الزّكَاةَ } الْمَفرُوضَةَ.

قِيلَ : هوَ تَأكِيدٌ لِلأَوَّل. وقِيلَ : المرادُ بالأَوَّلِ نَوافِلُ الصَّدَقَاتِ والْمَبَارِّ.

{ وَالْمُوفُونَ } عَطفٌ على مَنْ آمَنَ

{ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـاهَدُوا } اللهَ والنّاسَ

{ وَالصَّـابِرِينَ } نَصبٌ على الْمَدْح والاختِصَاصِ إظْهَارًا لِفَضْلِ الصَّبْرِ في الشَّدائدِ ومَواطِنِ القِتَالِ على سَائِرِ الأعمَالِ.

{ فِى الْبَأْسَآءِ } الفَقْرِ والشِّدَّةِ

{ وَالضَّرَّآءِ } الْمَرَضِ والزّمَانَةِ

{ وَحِينَ الْبَأْسِ } وَقتَ القِتَالِ

{ أؤلئك الَّذِينَ صَدَقُوا } أي أهلُ هَذِه الصِّفَةِ هُمُ الذينَ صَدَقُوا في الدِّيْن

{ وَأُولَـئكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [البقرة : 177]. رُوِيَ أنّهُ كانَ بَينَ حَيَّيْنِ مِن أَحْيَاءِ العَرَبِ دِمَاءٌ في الجَاهِلِيَّةِ وكَانَ لأَحَدِهِمَا طُولٌ على الآخَرِ فَأَقْسَمُوا لَنَقتُلَنَّ الحُرَّ مِنكُم بالعَبدِ والذَّكَرَ بالأُنثَى والاثنَينِ بالواحِدِ، فتَحَاكَمُوا إلى رسولِ اللهِ صَلّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم حِينَ جَاءَ اللهُ بالإسلامِ فنَزَلَ.

{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } أي فُرِضَ

وهوَ عِبَارَةٌ عن المسَاواةِ ، وأَصلُه مِن قَصَّ أثَرَه واقْتَصَّهُ إذَا اتَّبَعَه ومِنهُ القَاصُّ (الواعِظُ الذي يُكَلِّمُ النّاسَ في المسَاجِدِ ونَحوِها) لأنَّهُ يَتْبَعُ الآثَارَ والأخْبَار

{ فِي الْقَتْلَى } جَمعُ قَتِيل. والمعنى فَرضٌ علَيكُم اعتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ والْمُسَاوَاةِ بَينَ القَتْلَى

{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ } أي الحُرُّ مَأخُوذٌ أو مَقتُولٌ بالحُرِّ

{ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنثَى بِالأنثَى } وقالَ الشّافعِيُّ رحمَه الله : لا يُقتَلُ الحُرُّ بالعَبدِ، لهذَا النّصِّ

{فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ} قَالُوا : العَفوُ ضِدُّ العُقُوبَةِ.

يُقَالُ : عَفَوتَ عَن فُلانٍ إذَا صَفَحْتَ عَنهُ وأَعْرَضْتَ عن أنْ تُعَاقِبَه وهوَ يتَعدَّى بـ " عن " إلى الجَاني وإلى الجِنَايَةِ { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم } { وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـآاتِ } وإذَا اجْتَمَعَا عُدِّيَ إلى الأوَّل باللّام فتَقُولُ " عَفَوتُ لهُ عَن ذَنبِه " ومِنهُ الحَديث "عفَوتُ لَكُم عَن صَدَقَةِ الخَيلِ والرَّقِيق" رواه أبو داود والترمذي والنسائي. وقالَ الزّجّاجُ : مَن عُفِيَ لهُ أي مَن تُرِكَ لهُ القَتْلُ بالدِّيَةِ.

وقالَ الأزهَرِيُّ : العَفوُ في اللُّغَةِ الفَضْلُ

ويُقَالُ : عَفَوتُ لِفُلَانٍ بمَاليْ إذَا أَفضَلْتَ لهُ وأَعطَيتَهُ ، وعفَوتُ لهُ عَمَّا ليْ علَيهِ إذَا تَركتَه.

ومعنى الآيةِ عندَ الجمهُور : فمَن عُفِيَ لهُ مِن جِهَةِ أَخِيهِ شَيءٌ مِنَ العَفوِ، على أنّ الفِعلَ مُسنَدٌ إلى المصدَرِ كمَا في سِيْرَ بِزَيدٍ بَعضَ السَّيرِ والأخُ وَليُّ المقتُول.

وذُكِرَ بلَفظِ الأُخُوَّةِ بَعْثًا لهُ على العَطفِ لِمَا بَينَهُمَا مِنَ الجِنسِيَّةِ والإسلام ، ومَنْ هوَ القَاتِلُ المعفُوُّ لهُ عمّا جَنى وتُرِكَ المفعولُ الآخَرُ استِغنَاءً عَنهُ.

وقِيل : أُقِيمَ " لهُ " مُقَام " عنه " والضّمِيرُ في لهُ وأخِيه لـِمَنْ ، وفي إليهِ للأخِ أو لِلمُتَّبِع الدّالِّ علَيهِ فاتّبِاعٌ لأنّ المعنى فَلْيَتَّبِعِ الطّالِبُ القَاتِلَ بالمعرُوفِ بأنْ يُطَالِبَهُ مُطَالبَةً جمِيلَةً ، ولْيُؤدِّ إلَيهِ المطلُوبَ أي القَاتِلُ بَدَلَ الدَّمِ أدَاءً بإحسَانٍ بأنْ لا يَمْطُلَهُ ولا يَبْخَسَهُ.

وإنّما قِيلَ شَيءٌ مِنَ العَفْو لِيُعلَمَ أنّه إذَا عَفَا عن بَعضِ الدَّمِ أو عَفَا عَنهُ بَعضُ الوَرثَةِ تَمَّ العَفوُ وسَقَطَ القِصَاصُ.

ومَنْ فَسَّرَ عُفِيَ بتَرْكِ جَعلِ شَيءٍ مَفعُولًا به ، وكذا مَن فَسّرَه بـ " أَعْطَى " يَعني أنَّ الوَليَّ إذَا أَعْطَى لهُ شَيء مِن مَالِ أخِيهِ يَعني القَاتِل بطَرِيقِ الصُّلْح فَلْيَأخُذْه بمعرُوفٍ مِن غَيرِ تَعنِيفٍ ، ولْيُؤدِّه القَاتلُ إلَيهِ بِلا تَسْوِيفٍ.

وارتفَاعُ اتّبَاعٌ بأنّهُ خَبرُ مُبتَدأ مُضمَرٍ أي فالواجِبُ اتّبَاعُ

{ ذَلِكَ } الحكمُ المذكُورُ مِنَ العَفوِ وأَخْذِ الدِّيَةِ

{ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } فَإنّهُ كانَ في التَّورَاةِ القَتلُ لا غَيرَ ، وفي الإنجِيلِ العَفوُ بغَيرِ بدَلٍ لا غَيرَ ، وأُبِيحَ لنَا القِصَاصُ والعَفوُ وأَخْذُ المالِ بطَرِيقِ الصُّلْحِ تَوسِعَةً وتَيسِيرًا.

والآيَةُ تَدُلُّ على أنّ صَاحِبَ الكَبِيرَةِ مُؤمِنٌ للوَصْفِ بالإيمانِ بَعدَ وُجُودِ القَتْلِ ولِبَقاءِ الأُخُوَّةِ الثّابِتَةِ بالإيمانِ ولاستِحقَاقِ التّخفِيفِ والرَّحمَة

{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } التَّخفِيفِ فتَجَاوَزَ مَا شُرِعَ لهُ مِنْ قَتْلِ غَيرِ القَاتِلِ أو القَتلِ بَعدَ أَخْذِ الدِّيَةِ

{ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 178] نَوعٌ مِنَ العَذَابِ شَديدُ الأَلَم في الآخِرَةِ

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة البقرة تفسير النسفي