تفسير سورة المدثر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

تفسير سورة المدثر آية 1 إلى 27 تفسير سورة المدثر آية 28 إلى 56

 سورة المدثر مكية، وهي ست وخمسون ءاية

وَيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِعْلا أَوِ اسْمًا فَالْفِعْلُ كَأَبْدَأُ وَالاسْمُ كَابْتِدَائِي. وَكَلِمَةُ "اللَّه" عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ.

الرَّحْمٰنُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/ 156]، وَالرَّحِيمُ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/ 43]، وَالرَّحْمٰنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى.

أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاورتُ بحراء شهرًا، فلما قضيتُ جِوَاري نزلتُ فاستبطنتُ الوادي فَنُوديتُ فلم أر أحدًا فرفعتُ رأسي فإذا الملكُ الذي جاءني بحراء، فرجعتُ فقلت: دثروني، فأنزل الله: ﴿يا أيُّها الْمُدَّثِّرُ  قمْ فأنْذِر﴾". أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير: سورة المدثر، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)﴾ هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم.

﴿قُمْ فَأَنذِرْ (2)﴾ أي حَذّر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا.

﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾ أي عَظّمه، وتعظيم الله تعالى يكون بتوحيده وتنزيهه عن مشابهة المخلوقين، ويؤخذ من هذه الآية أنه أول ما يجب على العبد معرفةُ الله عزَّ وجلَّ أي معرفةُ ما يجب لله من صفات الكمال وما يستحيلُ عليه من النقائص، فإن من شبَّه الله بخلقه لم يعظمه.

﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي طهر ثيابك من النجاسات لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة، وقيل غير ذلك.

﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾ أي الأوثان والأصنام ﴿فاهجر﴾ أي اترك، ولا يلزم من ذلك تلبسه صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك.

وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعاصم إلا أبا بكر، ويعقوب، وابن محيصن: "والرُّجزَ" بضم الراء، والباقون بكسرها، قال الزجاج: ومعنى القراءتين واحد.

﴿وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)﴾ أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، قاله ابن عباس، وهذا النهي خاص به صلى الله عليه وسلم لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجلّ الأخلاق وأباحه لأمته، وقيل: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك، وقيل غير ذلك.

﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)﴾ أي اصبر على تكاليف النبوة وعلى أداء طاعة الله وعلى أذى الكفار.

﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)﴾ أي نفخ ﴿في الناقورِ﴾ أي الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل الملك الموكل بالنفخ.

﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)﴾ أي وقت النفخ في الصور ﴿يومئذٍ يومٌ عسيرٌ﴾ قال ابن عباس: شديد، رواه البخاري.

﴿عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾ أي غير سهل ولا هيّن.

﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)﴾ أي دعني وهي كلمة وعيد وتهديد ﴿ومَنْ خلقتُ وحيدًا﴾ المعنى: كِل إلى الله يا محمد أمر الذي خلقه الله وحده لا مال له ولا ولد ثم أعطاه بعد ذلك ما أعطاه وهو الوليد بن المغيرة وكان يسمى الوحيد في قومه، وإنما خُص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام. قال ابن الجوزي: "هذه نزلت في الوليد بن المغيرة والمعنى: خَلّ بيني وبينه فإني أتولى هلاكه، وقد زعم بعضهم أنها نُسخت بآية السيف وهذا باطل من وجهين:

أحدهما: أنه إذا ثبت أنه وعيد فلا وجه للنسخ.

والثاني: أن هذه السورة مكية وءاية السيف مدنية، والوليد هلك بمكة قبل نزول ءاية السيف" اهـ.

وأخرج الحاكم (المستدرك [2/506-507]) وصححه عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرءان فكأنه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عمّ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدًا لتتعرَّض لنا قبله، قال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومَك أنك مُنكرٌ له وأنك كارِهٌ له، فقال: وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا بَرجَزه ولا بقصيده مني ولا بأشعار الجنّ، والله ما يُشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت: ﴿وذرني ومن خلقت وحيدًا﴾، قال الحافظ السيوطي: "إسناده صحيح على شرط البخاري"، وأخرج ابن جرير من طرق أخرى نحوه.

﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (12)﴾ كثيرًا واسعًا متصلاً من الزروع والضروع والتجارة، وأعطيته مالا ممدودًا وهو كان له ما بين مكة والطائف من البساتين والعبيد والجواري والإبل والحُجُور وهي الأنثى من الخيل.

﴿وَبَنِينَ شُهُوداً (13)﴾ وكانوا عشرة أو أكثر أسلم منهم ثلاثة ﴿شُهُودًا﴾ أي حضورًا معه بمكة يتمتع بلقائهم لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش ولا يحتاج أن يرسلهم في مصالحه لكثرة خدمه.

﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)﴾ أي بسطتُ له في العيش بسطًا، قال ابن عباس: وسعتُ له ما بين اليمن والشام.

﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)﴾ أي أن الوليد بن المغيرة يطمع أن أزيده من المال والولد على ما أعطيته.

﴿كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً (16)﴾ أي ليس يكون كذلك مع كفره بالنعم ﴿إنَّهُ﴾ يعني الوليد ﴿كانَ لآياتِنا عنيدًا﴾ أي معاندًا للنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به.

﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)﴾ أي سَأُكلفه مشقةً من العذاب لا راحة له منها.

﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)﴾ يعني الوليد ﴿فكَّرَ﴾ في ما تخيل طعنًا في القرءان ﴿وقدَّرَ﴾ في نفسه ما يقول في محمد والقرءان.

﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)﴾ أي لُعن الوليد بن المغيرة ﴿كيفَ قدَّرَ﴾ ما لا يصح تقديره وما لا يسوغ أن يقدره عاقل.

﴿ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)﴾ كرر الدعاء عليه للمبالغة وتقبيح ما فكر به.

﴿ثُمَّ نَظَرَ (21)﴾ أي فكر ثانيًا بأي شيء يدفع القرءان ويرده.

﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)﴾ أي قطب بين عينيه في وجوه المؤمنين ﴿وبَسرَ﴾ أي كلح وجهه وتغير لونه.

﴿ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)﴾ عن الإيمان ﴿واستكبرَ﴾ أي تكبر عن قبول الحق واتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)﴾ أي قال ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ﴿إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ أي يأثره عن غيره، أي زعم أن هذا سحر يرويه محمد وينقله عن غيره من السحرة قبله، والسحر: الخديعة.

﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)﴾ وزعم هذا المعاند أن هذا القرءان ما هو إلا كلام البشر ليس بكلام الله عزَّ وجلَّ.

﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)﴾ أي سأدخله ﴿سقرَ﴾ أي جهنم، وسقر اسم من أسماء جهنم.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)﴾ هذه مبالغة في وصفها، أي وما أعلمك أي شيء هي ؟ وهي كلمة تعظيم لهولها وشدتها. ثم فسَّر حالها فقال:

﴿لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28)﴾ أي لا تبقي على من ألقي فيها ﴿ولا تذرُ﴾ غاية من العذاب إلا أوصلته إليه. فالكافر لا ينقطع عنه العذاب في النار وهي مع شدتها لا يموت فيها فيرتاح من العذاب ولا يحيا حياة هنيئة بل عذابه أبدي سرمدي، هذا ما عليه أهل الحق قاطبة بخلاف ما زعمه ابن تيمية وجماعته من أن الكفار ينقطع عنهم العذاب وتفنى النار فإن هذا تكذيب للقرءان.

﴿لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)﴾ أي مغيرة للبشرات محرقة للجلود مسودة لها، وقيل: إنهم الإنس من أهل النار.

﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)﴾ أي على سقر ﴿تسعةَ عشر﴾ ملكًا من خزنة النار، مالك ومعه ثمانية عشر.

أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره والبيهقي في كتاب البعث والنشور عن البراء رضي الله عنه أن رهطًا من اليهود سألوا رجلاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فجاء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه ساعتئذ: ﴿عليها تسعةَ عشر﴾.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال: لما نزلت: ﴿عليها تسعةَ عشر﴾ قال رجل من قريش يدعى أبا الأشد: يا معشر قريش، لا يهولنكم التسعة عشر أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة وبمنكبي الأيسر التسعة، فأنزل الله: ﴿وما جعلنا أصحابَ النار إلا ملائكة﴾ الآية.

﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)﴾ أي خزنتها ﴿إلا ملائكة﴾ أقوياء أشداء ﴿وما جعلنا عِدَّتهم﴾ أي عددهم وهم تسعة عشر ﴿إلا فتنةً للذينَ كفروا﴾ أي سببًا لفتنة الكفار، وفتنتهم هي كونهم أظهروا مقاومتهم في مغالبة الملائكة وذلك على سبيل الاستهزاء، فقد قال أبو جهل: يا معشر قريش ما يستطيع كل عشرة منكم أن يغلبوا واحدًا من خزنة النار ؟ ﴿لِيَستيقن﴾ أي ليوقن ﴿الذينَ أوتوا الكتابَ﴾ وهم اليهود والنصارى أن هذا القرءان هو من عند الله إذ هم يجدون هذه العدة في كتبهم المنزلة ويعلمون أن الرسول لم يقرأها ولا قرأها عليه أحد ولكن كتابه يُصدّق كتب الأنبياء إذ كل ذلك حق يتعاضد من عند الله.

﴿ويزداد الذينَ ءامنوا إيمانًا﴾ يعني من ءامن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يزدادون تصديقًا بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن العدد كان موجودًا في كتابهم وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم على وفق ما عندهم من غير سابقة دراسة وتعلم علم إنما حصل له ذلك بالوحي فازدادوا بذلك إيمانًا وتصديقًا بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ولا يرتابَ﴾ أي ولا يشك، وهذا توكيد لقوله ﴿ليستيقن﴾ إذ إثبات اليقين ونفي الارتياب أبلغ وءاكد في الوصف لسكون النفس السكون التام ﴿الذينَ أوتوا الكتاب﴾ أي أعطوا الكتاب وهم اليهود والنصارى ﴿والمؤمنون﴾ بالله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر ﴿وليقولَ الذين في قلوبهم مرضٌ﴾ أي شك أو نفاق ﴿والكافرون﴾ بالله من مشركي قريش وغيرهم ﴿ماذا أرادَ الله بهذا مثلاً﴾ يعني بعدد خزنة جهنم وما الحكمة في ذكر هذا العدد ؟ ﴿كذلكَ﴾ أي كما أضل الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لعدد خزنة جهنم ﴿يُضلُّ الله من يشاءُ﴾ أي يخلق الله الضلالة في قلوب من شاء أن يضلهم ﴿ويهدي من يشاء﴾ أي يخلق الله الاهتداء في قلوب من شاء أن يهديهم ﴿وما يعلم﴾ أي وما يدري ﴿جنود ربك﴾ أي عددهم وهم الملائكة ﴿إلا هو﴾ يعني الله عزَّ وجلَّ.

روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن البيت المعمور الذي هو في السماء السابعة: "يدخله كل يوم سبعون ألف مَلَك لا يعودون إليه". (أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات).

﴿وما هيَ﴾ أي النار ﴿إلا ذكرى للبشر﴾ أي إلا تذكرة وموعظة للناس ذكَّر بها البشر ليخافوا ويطيعوا.

﴿كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)﴾ أي ليس القول كما يقول من زعم أنه يكفي أصحابه المشركين خزنة جهنم ﴿والقمر﴾ أقسم الله بالقمر ﴿والليل إذْ أدبرَ﴾ أي ولَّى ﴿والصبح إذا أسفر﴾ أي أضاء وتبين.

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "إذا دبر".

﴿إِنَّهَا لإٍحْدَى الْكُبَرِ (35)﴾ أي النار ﴿لإحدى الكبر﴾ أي لإحدى الأمور العظام التي لا نظير لها.

﴿نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)﴾ قال الزجاج: نصب "نذيرًا" على الحال، والمعنى إنها لكبيرة في حال الإنذار، قال الحسن: والله ما أنذر الخلائق بشيء هو أدهى منها.

﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)﴾ هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدًا صلى الله عليه سلم عوقب عقابًا لا ينقطع.

﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)﴾ أي مرتهنة بكسبها.

﴿إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)﴾ وهم أهل الجنة فإنهم لا يرتهنون، وقيل أصحاب اليمين الملائكة، وقيل أطفال المسلمين، وقيل المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين لأنهم أدوا ما كان عليهم، وقيل غير ذلك.

﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)﴾ أي هم في جنات ونعيم ﴿يتساءلون﴾ أي يسألون الكفار الذين هم في النار.

﴿عَنْ الْمُجْرِمِينَ (41)﴾ أي الكافرين.

﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)﴾ أي أدخلكم والمعنى أي شيء أدخلكم ﴿في سقر﴾ أي جهنم، وسؤالهم سؤال توبيخ لهم وتحقير وإلا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار، والجواب:

﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)﴾ أي قال المجرمون وهم الكافرون لهم ﴿لم نكُ مِنَ المصلين﴾ أي المؤمنين الذين يصلون.

﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)﴾ أي لم نتصدق عليه.

﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)﴾ في الباطل ﴿مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ فيه.

﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)﴾ أي بيوم القيامة والحساب والثواب والعقاب.

﴿حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)﴾ أي الموت.

﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)﴾ أي لا شفاعة لهم لأن الشفاعة إنما تكون لمن ءامن بالله ورسوله، وليس المعنى أن المكذبين بيوم الدين يُشفع لهم فلا تنفع شفاعة من يشفع لهم وإنما المعنى نفي الشفاعة للكفار.

﴿فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)﴾ أي فما لهؤلاء المشركين عن مواعظ القرءان معرضين لا يستمعون لها فيتعظوا ويعتبروا. ثم شبههم بالحمر المستنفرة في شدة إعراضهم ونفارهم عن الإيمان وءايات الله تعالى فقال عزَّ وجلَّ:

﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)﴾ أي كأن هؤلاء الكفارَ في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم ﴿حمر﴾ وهي الحمر الوحشية، جمع حمار ﴿مستنفرة﴾ أي نافرة.

وقرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر بفتح الفاء، والباقون بكسرها، قال أبو عبيدة: من قرأ بفتح الفاء أراد "مذعورة"، ومن قرأ بكسر الفاء أراد "نافرة".

﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)﴾ أي نفرت وهربت ﴿من قَسْوَرة﴾ أي من رماة يرمونها، أو من الأسد، وذلك لأن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرءان هربوا منه.

﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)﴾ أي من المعرضين عن عظات الله وءاياته ﴿أن يُؤتى صُحُفًا﴾ أي أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عزَّ وجلَّ إلى فلان ابن فلان، وقيل: كانوا يقولون إن كان محمد صادقًا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأَمنه من النار ﴿مُنشَّرة﴾ أي منشورة غير مطوية تقرأ كالكتب التي يتكاتب بها أو كتبت في السماء نزلت بها الملائكة ساعة كتبت رطبة لم تطو بعد وهذا من زيادة تعنتهم.

أخرج ابن المنذر عن السدّي قال: قالوا: لئن كان محمد صادقًا فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة وأمنة من النار، فنزلت: ﴿بل يريدُ كلُّ امرئٍ منهم أن يُؤتى صُحُفًا مُنشَّرة﴾.

﴿كَلاَّ بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ (53) أي ليس يكون ذلك، وهذا ردع عما أرادوه من اقتراح الآيات وليس الأمر كما يزعمون من أنهم لو أوتوا صحفًا منشرة صَدَّقوا ﴿بل لا يخافونَ الآخرةَ﴾ أي لا يخافون عقاب الله ولا يصدقون بالبعث والثواب والعقاب فذلك الذي دعاهم إلى الإعراض عن التذكرة وهوَّنَ عليهم ترك الاستماع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

﴿كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)﴾ ردع عن إعراضهم عن التذكرة أي ليس الأمر كما يقول هؤلاء المشركون في هذا القرءان من أنه سحر يؤثر وأنه قول البشر ولكن ﴿إنهُ﴾ أي القرءان ﴿تذكرة﴾ أي موعظة من الله لخلقه ذكَّرهم به.

﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)﴾ أي من شاء من عباد الله الذين ذَكَّرَهُم الله بهذا القرءان ذكره أي اتعظ به فإنما يعود نفع ذلك عليه.

﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)﴾ أي وما يتعظون ﴿إلا أن يشاء الله﴾ أي ليس يقدرون على الاتعاظ والتذكر إلا بمشيئة الله ذلك لهم، وهذا تصريح بأن فعل العبد بمشيئة الله تعالى كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ﴿هو أهل التقوى﴾ أي أهل أن يُتقى بأداء ما فرض واجتناب ما نهى عنه ﴿وأهل المغفرة﴾ أي أهل أن يغفر لمن تاب.

سني أهل السنة دروس دينية إسلامية ثقافة إسلامية تفسير قرآن تفسير سورة المدثر تفسير جزء تبارك